الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)
.تفسير الآيات (118- 120): {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)}البطانة مصدر يسمى به الواحد، والجمع، وبطانة الرجل: خاصته الذين يستبطنون أمره، وأصله البطن الذي هو: خلاف الظهر، وبطن فلان بفلان يبطن بطوناً، وبطانة: إذا كان خاصاً به، ومنه قول الشاعر:قوله: {مّن دُونِكُمْ} أي: من سواكم، قاله الفراء: أي: من دون المسلمين، وهم الكفار، أي: بطانة كائنة من دونكم، ويجوز أن يتعلق بقوله: {لاَ تَتَّخِذُواْ}. وقوله: {لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} في محل نصب صفة لبطانة، يقال لا ألوك جهداً: أي: لا أقصر. قال امرؤ القيس: والمراد: لا يقصرون فيما فيه الفساد عليكم، وإنما عدّي إلى مفعولين لكونه مضمناً معنى المنع، أي: لا يمنعونكم خبالاً، والخبال، والخبل: الفساد في الأفعال، والأبدان، والعقول. قال أوس: أي: فاسدة العضد. قوله: {وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ} {ما} مصدرية، أي: ودّوا عنتكم، والعنت المشقة، وشدة الضرر، والجملة مستأنفة مؤكدة للنهي. قوله: {قَدْ بَدَتِ البغضاء} هي: شدة البغض، كالضراء لشدة الضر. والأفواه جمع فم. والمعنى: أنها قد ظهرت البغضاء في كلامهم؛ لأنهم لما خامرهم من شدة البغض، والحسد أظهرت ألسنتهم ما في صدورهم، فتركوا التقية، وصرحوا بالتكذيب. أما اليهود، فالأمر في ذلك واضح. وأما المنافقون، فكان يظهر من فلتات ألسنتهم ما يكشف عن خبث طويتهم. وهذه الجملة مستأنفة لبيان حالهم {وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} لأن فلتات اللسان أقل مما تجنه الصدور، بل تلك الفلتات بالنسبة إلى ما في الصدور قليلة جداً. ثم إنه سبحانه امتنّ عليهم ببيان الآيات الدالة على وجوب الإخلاص إن كانوا من أهل العقول المدركة لذلك البيان. قوله: {هَاأَنتُمْ أُوْلاء} جملة مصدرة بحرف التنبيه، أي: أنتم أولاء الخاطئون في موالاتهم، ثم بين خطأهم بتلك الموالاة بهذه الجملة التذييلية. فقال: {تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ} وقيل: إن قوله: {تُحِبُّونَهُمْ} خبر ثان لقوله: {أنتم} وقيل: إن أولاء موصول، و{تحبونهم} صلته أي: تحبونهم لما أظهروا لكم الإيمان، أو لما بينكم، وبينهم من القرابة: {وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ} لما قد استحكم في صدورهم من الغيظ والحسد. قوله: {وَتُؤْمِنُونَ بالكتاب كُلّهِ} أي: بجنس الكتاب جميعاً، ومحل الجملة النصب على الحال، أي: لا يحبونكم، والحال أنكم مؤمنون بكتب الله سبحانه التي من جملتها كتابهم، فما بالكم تحبونهم، وهم لا يؤمنون بكتابكم. وفيه توبيخ لهم شديد، لأن من بيده الحق أحق بالصلابة، والشدّة ممن هو على الباطل {وإذا لقوكم قالوا آمنا} نفاقاً وتقية {وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الانامل مِنَ الغيظ} تأسفاً، وتحسراً، حيث عجزوا عن الانتقام منكم، والعرب تصف المغتاظ، والنادم يعضّ الأنامل، والبنان، ثم أمره الله سبحانه بأن يدعو عليهم، فقال: {قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ} وهو يتضمن استمرار غيظهم ما داموا في الحياة حتى يأتيهم الموت، وهم عليه، ثم قال: {إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} فهو يعلم ما في صدوركم، وصدورهم، والمراد بذات الصدور: الخواطر القائمة بها، وهو كلام داخل تحت قوله: {قُلْ} فهو من جملة المقول.قوله: {إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ} هذه الجملة مستأنفة لبيان تناهي عداوتهم، وحسنة، وسيئة يعمان كل ما يحسن، وما يسوء. وعبر بالمسّ في الحسنة، وبالإصابة في السيئة، للدلالة على أن مجرد مس الحسنة يحصل به المساءة، ولا يفرحون إلا بإصابة السيئة، وقيل: إن المسّ مستعار لمعنى الإصابة. ومعنى الآية: أن من كانت هذه حالته لم يكن أهلاً؛ لأن يتخذ بطانة {وَأَن تَصْبِرُواْ} على عداوتهم، أو على التكاليف الشاقة {وَتَتَّقُواْ} موالاتهم، أو ما حرّمه الله عليكم {يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} يقال ضارّه يضوره، ويضيره ضيراً، وضيوراً: بمعنى ضرّه يضره، وبه قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو. وقرأ الكوفيون، وابن عامر لا يضركم بضم الراء، وتشديدها من ضرّ يضر، فهو على القراءة الأولى مجزوم على أنه جواب الشرط، وعلى القراءة الثانية مرفوع على تقدير إضمار الفاء، كما في قول الشاعر: قاله الكسائي، والفراء، وقال سيوبيه: إنه مرفوع على نية التقديم، أي: لا يضركم أن تصبروا.وحكى أبو زيد عن المفضل عن عاصم {لا يضركم} بفتح الراء، و{شيئاً} صفة مصدر محذوف.وقد أخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال: كان رجال من المسلمين يواصلون رجالاً من يهود لما كان بينهم من الجوار، والحلف في الجاهلية، فأنزل الله فيهم ينهاهم، عن مباطنتهم لخوف الفتنة عليهم منهم {ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً من دونكم} الآية.وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عنه قال: هم المنافقون.وأخرج عبد بن حميد، عن مجاهد نحوه.وأخرج ابن أبي حاتم، والطبراني، عن أبي أمامة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال: «هم الخوارج.» قال السيوطي، وسنده جيد.وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر، عن ابن عباس في قوله: {وَتُؤْمِنُونَ بالكتاب كُلّهِ} أي: بكتابكم وبكتابهم، وبما مضى من الكتب قبل ذلك، وهم يكفرون بكتابكم، فأنتم أحق بالبغضاء، لهم منهم لكم.وأخرج ابن أبي حاتم، عن مقاتل {إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ} يعني: النصر على العدوّ، والرزق، والخير {تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيّئَةٌ} يعني القتل، والهزيمة، والجهد. .تفسير الآيات (121- 129): {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)}العامل في {إذ} فعل محذوف، أي: واذكر إذ غدوت من منزل أهلك، أي: من المنزل الذي فيه أهلك.وقد ذهب الجمهور إلى أن هذه الآية نزلت في غزوة أحد.وقال الحسن: في يوم بدر.وقال مجاهد، ومقاتل، والكلبي: في غزوة الخندق. قوله: {تُبَوّئ} أي: تتخذ لهم مقاعد للقتال، وأصل التبوّء اتخاذ المنزل، يقال بوّأته منزلاً: إذا أسكنته إياه، والفعل في محل نصب على الحال. ومعنى الآية: واذكر إذ خرجت من منزل أهلك تتخذ للمؤمنين مقاعد للقتال، أي: أماكن يقعدون فيها، وعبر عن الخروج بالغدوّ الذي هو: الخروج غدوة مع كونه صلى الله عليه وسلم خرج بعد صلاة الجمعة، كما سيأتي؛ لأنه قد يعبر بالغدوّ، والرواح، عن الخروج، والدخول من غير اعتبار أصل معناهما، كما يقال، أضحى، وإن لم يكن في وقت الضحى.قوله: {إِذْ هَمَّتْ طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ} هو: بدل من {إذ غدوت} أو متعلق بقوله: {تبوّئ} أو بقوله: {سميع عليم} والطائفتان: بنو سلمة من الخزرج، وبنو حارثة من الأوس، وكانا جناحي العسكر يوم أحد، والفشل الجبن، وَالْهَمُّ من الطائفتين كان بعد الخروج، لما رجع عبد الله بن أبيّ بمن معه من المنافقين، فحفظ الله قلوب المؤمنين، فلم يرجعوا، وذلك قوله: {والله وَلِيُّهُمَا}.قوله: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ} جملة مستأنفة سيقت لتصبيرهم بتذكير ما يترتب على الصبر من النصر. وبدر اسم لماء كان في موضع الوقعة، وقيل: هو اسم الموضع نفسه، وسيأتي سياق قصة بدر في الأنفال إن شاء الله. وأذلة جمع قلة، ومعناه: أنهم كانوا بسبب قلتهم أذلة، وهو: جمع ذليل استعير للقلة، إذ لم يكونوا في أنفسهم أذلة، بل كانوا أعزة. والنصر: العون.وقد شرح أهل التواريخ، والسير غزوة بدر وأحد بأتم شرح، فلا حاجة لنا في سياق ذلك هاهنا.قوله: {إِذْ تَقُولُ} متعلق بقوله: {نَصَرَكُمُ} والهمزة في قوله: {أَلَنْ يَكْفِيكُمْ} للإنكار منه عليهم عدم اكتفائهم بذلك المدد من الملائكة، ومعنى الكفاية: سدّ الخلة، والقيام بالأمر، والإمداد في الأصل: إعطاء الشيء حالاً بعد حال، والمجيء ب {لن} لتأكيد النفي، وأصل الفور: القصد إلى الشيء، والأخذ فيه بجدّ، وهو: من قولهم فارت القدر تفور فوراً، وفوراناً. إذا غلت، والفور: الغليان، وفار غضبه: إذا جاش، وفعله من فوره أي: قبل أن يسكن، والفوّارة ما يفور من القدر، استعير للسرعة، أي: إن يأتوكم من ساعتهم هذه يمددكم ربكم بالملائكة في حال إتيانهم لا يتأخر عن ذلك.قوله: {مُسَوّمِينَ} بفتح الواو اسم مفعول، وهي: قراءة ابن عامر، وحمزة، والكسائي، ونافع: أي: معلمين بعلامات. وقرأ أبو عمرو، وابن كثير، وعاصم {مسومين} بكسر الواو اسم فاعل، أي: معلمين أنفسهم بعلامة.ورجح ابن جرير هذه القراءة، والتسويم إظهار سيما الشيء. قال كثير من المفسرين: {مُسَوّمِينَ} أي: مرسلين خيلهم في الغارة، وقيل: إن الملائكة اعتمت بعمائم بيض، وقيل: حمر، وقيل: خضر، وقيل: صفر، فهذه هي العلامة التي علموا بها أنفسهم حكى ذلك عن الزجاج، وقيل: كانوا على خيل بلق، وقيل: غير ذلك. قوله: {وَمَا جَعَلَهُ الله إِلاَّ بشرى لَكُمْ} كلام مبتدأ غير داخل في مقول القول، والضمير في قوله: {جعله} للإمداد المدلول عليه بالفعل، أو للتسويم، أو للإنزال، ورجح الأوّل الزجاج، وصاحب الكشاف. وقوله: {إِلاَّ بشرى} استثناء مفرّغ من أعم العام، والبشرى اسم من البشارة، أي: إلا لتبشروا بأنكم تنصرون، ولتطمئن قلوبكم به، أي: بالإمداد، واللام لام كي، جعل الله ذلك الإمداد بشرى بالنصر، وطمأنينة للقلوب، وفي قصر الإمداد عليهما إشارة إلى عدم مباشرة الملائكة للقتال يومئذ {وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله} لا من عند غيره، فلا تنفع كثرة المقاتلة، ووجود العدة.قوله: {لِيَقْطَعَ طَرَفاً مّنَ الذين كَفَرُواْ} متعلق بقوله: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ} وقيل: متعلق بقوله: {وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله} وقيل: متعلق بقوله: {يُمْدِدْكُمْ} والطرف الطائفة، والمعنى: نصركم الله ببدر ليقطع طائفة من الكفار، وهم: الذين قتلوا يوم بدر، أو وما النصر إلا من عند الله ليقطع تلك الطائفة، أو يمددكم ليقطع. ومعنى يكبتهم يحزنهم، والمكبوت المحزون.وقال بعض أهل اللغة: معناه يكبدهم، أي: يصيبهم بالحزن، والغيظ في أكبادهم، وهو غير صحيح، فإن معنى كبت أحزن، وأغاظ، وأذل، ومعنى كبد: أصاب الكبد {فَيَنقَلِبُواْ خَائِبِينَ} أي: غير ظافرين بمطلبهم.قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَئ} جملة اعتراضية بين المعطوف، والمعطوف عليه، أي: أن الله مالك أمرهم يصنع بهم ما يشاء من الإهلاك، أو الهزيمة، أو التوبة إن أسلموا، أو العذاب، فقوله: {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذّبَهُمْ} عطف على قوله، أو يكبتهم، وقال الفراء: إنّ {أو} بمعنى إلا أن، بمعنى ليس لك من الأمر شيء إلا أن يتوب عليهم، فتفرح بذلك، أو يعذبهم فتشفى بهم.قوله: {وَللَّهِ مَا في السموات وَمَا فِي الأرض} كلام مستأنف لبيان سعة ملكه {يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء} أن يغفر له: {وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء} أن يعذبه يفعل في ملكه ما يشاء، ويحكم ما يريد {لاَّ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ} [الأنبياء: 23] وفي قوله: {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} إشارة إلى أن رحمته سبقت غضبه، وتبشير لعباده بأنه المتصف بالمغفرة، والرحمة على وجه المبالغة، وما أوقع هذا التذييل الجليل وأحبه إلى قلوب العارفين بأسرار التنزيل.وقد أخرج ابن إسحاق، والبيهقي في الدلائل عن ابن شهاب، وعاصم بن عمر بن قتادة، ومحمد بن يحيى بن حبان، والحصين بن عبد الرحمن بن أسعد بن معاذ قالوا: كان يوم أحد يوم بلاء، وتمحيص، اختبر الله به المؤمنين، ومحق به المنافقين ممن كان يظهر الإسلام بلسانه، وهو مستخف بالكفر، ويوم أكرم الله فيه من أراد كرامته بالشهادة من أهل ولايته.وكان مما نزل من القرآن في يوم أحد ستون آية من آل عمران فيها صفة ما كان في يومه ذلك، ومعاتبة من عاتب منهم، يقول الله لنبيه: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ} الآية.وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ} الآية قال: يوم أحد.وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير في قوله: {تُبَوّئ المؤمنين} قال: توطن.وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن الحسن أن الآية في يوم الأحزاب.وقد ورد في كتب السير، والتاريخ كيفية الاختلاف في المشورة على النبي صلى الله عليه وسلم في يوم أحد، فمن قائل نخرج إليهم، ومن قائل نبقى في المدينة، فخرج، وكان من جملة المشيرين عبد الله بن أبيّ بن سلول رأس المنافقين، كان رأيه البقاء في المدينة، والمقاتلة فيها، ثم لما خولف في رأيه انخذل بمن معه من المنافقين، وهم قدر الثلث من القوم الذين خرج بهم النبي صلى الله عليه وسلم.وأخرج البخاري، ومسلم وغيرهما عن جابر قال: فينا نزلت في بني حارثة، وبني سلمة: {إِذْ هَمَّتْ طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ} وما يسرني أنها لم تنزل لقوله: {والله وَلِيُّهُمَا}.وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة في قوله: {إِذْ هَمَّتْ طَّائِفَتَانِ} قال: ذلك يوم أحد.وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس قال: هم بنو حارثة، وبنو سلمة.وأخرج عبد بن حميد، عن مجاهد {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ} إلى {ثلاثة آلاف مّنَ الملئكة مُنزَلِينَ} في قصة بدر.وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن الحسن في قوله: {وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ} يقول: وأنتم قليل، وهم يومئذ بضعة عشر وثلاثمائة.وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن الشعبي: أن المسلمين بلغهم يوم بدر أن كرز بن جابر المحاربي يمدّ المشركين فشق ذلك عليهم، فأنزل الله: {أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ ربكم بثلاثة آلاف} إلى قوله: {مُسَوّمِينَ} قال: فبلغت كرزاً، فلم يمد المشركين، ولم يمدّ المسلمين بالخمسة.وأخرج ابن جرير عن الشعبي لما كان يوم بدر بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر نحوه إلا أنه قال: {وَيَأْتُوكُمْ مّن فَوْرِهِمْ هذا} يعني كرزاً، وأصحابه {يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ ءالافٍ مّنَ الملئكة مُسَوّمِينَ} فبلغ كرزاً، وأصحابه الهزيمة، فلم يمدهم، ولم ينزل الخمسة، وأمدّوا بعد ذلك بألف، فهم أربعة آلاف.وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عن قتادة في الآية قال: أمدّوا بألف، ثم صاروا ثلاثة آلاف، ثم صاروا خمسة آلاف، وذلك يوم بدر.وأخرج ابن جرير، عن عكرمة في قوله: {بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ} الآية، قال: هذا يوم أحد، فلم يصبروا، ولم يتقوا، فلم يمدّوا يوم أحد، ولو أمدّوا لم ينهزموا يومئذ.وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن الضحاك نحوه.وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله: {وَيَأْتُوكُمْ مّن فَوْرِهِمْ هذا} يقول: من سفرهم هذا.وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن عكرمة {من فورهم} قال: من وجههم.وأخرج ابن جرير عن الحسن، والربيع، وقتادة، والسديّ مثله، وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن مجاهد من فورهم قال: من غضبهم.وأخرجا عن أبي صالح مولى أم هانئ مثله.وأخرج الطبراني، وابن مردويه بسند ضعيف عن ابن عباس. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: {مُسَوّمِينَ} قال: معلّمين، وكانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم سوداء، ويوم أحد عمائم حمراء.وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن عبد الله بن الزبير: أن الزبير كان عليه يوم بدر عمامة صفراء معتجراً بها، فنزلت الملائكة عليهم عمائم صفر.وأخرج ابن إسحاق، والطبراني عن ابن عباس قال: كانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيضاء، قد أرسلوها في ظهورهم، ويوم حنين عمائم حمراء، ولم تضرب الملائكة في يوم سوى يوم بدر، وكانوا يكونون عدداً، ومدداً لا يضربون. وفي بيان التسويم عن السلف اختلاف كثير لا يتعلق به كثير فائدة.وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {لِيَقْطَعَ طَرَفاً مّنَ الذين كَفَرُواْ} قال قطع الله يوم بدر طرفاً من الكفار، وقتل صناديدهم، ورءوسهم، وقادتهم في الشرّ.وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم في قوله: {لِيَقْطَعَ طَرَفاً} قال: هذا يوم بدر قطع الله طائفة منهم، وبقيت طائفة.وأخرج ابن جرير، عن السديّ قال: ذكر الله قتلى المشركين بأحد، وكانوا ثمانية عشر رجلاً، فقال: {لِيَقْطَعَ طَرَفاً مّنَ الذين كَفَرُواْ} ثم ذكر الله الشهداء، فقال: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ في سَبِيلِ الله أمواتا} [آل عمران: 169].وأخرج ابن المنذر عن مجاهد في قوله: {أَوْ يَكْبِتَهُمْ} قال: يحزنهم.وأخرج ابن جرير، عن قتادة، والربيع مثله.وأخرج البخاري، ومسلم وغيرهما عن أنس؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته يوم أحد، وشج في وجهه حتى سال الدم، فقال: «كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم، وهو يدعوهم إلى ربهم؟».فأنزل الله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَئ} الآية.وقد روي هذا المعنى في روايات كثيرة.وأخرج البخاري، ومسلم وغيرهما، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد: «اللهم العن أبا سفيان، اللهمّ العن الحارث بن هشام، اللهمّ العن سهيل بن عمرو، اللهمّ العن صفوان بن أمية» فنزلت هذه الآية: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَئ}.وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما أيضاً من حديث أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يدعو على أحد، أو يدعو لأحد قنت بعد الركوع: «اللهمّ أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف» يجهر بذلك. وكان يقول في بعض صلاته في صلاة الفجر: «اللهمّ العن فلاناً، وفلاناً لأحياء من أحياء العرب» حتى أنزل الله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَئ} وفي لفظ: «اللهم العن لحيان، ورعلا، وذكوان، وعصية عصت الله ورسوله» ثم بلغنا أنه ترك ذلك لما نزل قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَئ} الآية.
|